فصل: فَصْلٌ: الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ: فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ نَوْعَانِ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ.
(أَمَّا) النَّصُّ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ لِلْحَالِ إنْ كَانَتْ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ تَقَعْ السَّاعَةَ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَقَعَتْ بِهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ لِأَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ التَّطْلِيقَةُ مُخْتَصَّةً بِالسُّنَّةِ فَإِذَا أَدْخَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ فِي السُّنَّةِ فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ السُّنَّةِ وَهَذَا يُوجِبُ تَمَحُّضُهَا سُنَّةً بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ أَوْ تَنْصَرِفُ إلَى السُّنَّةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ.
وَالسُّنَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ مَا لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْوَاقِعَ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ نَوْعَانِ: حَسَنٌ وَأَحْسَنُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ، وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَةَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ التَّطْلِيقَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَإِنْ أَرَادَ وَاحِدَةً بَائِنَةً لَمْ تَكُنْ بَائِنَةً لِأَنَّ لَفْظَةَ الطَّلَاقِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ وَكَذَا لَفْظُ السُّنَّةِ بَلْ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ لَيْسَتْ بِمَسْنُونَةٍ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَثْبُتَ بِاللَّفْظِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَإِنْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لَمْ يَكُنْ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ: لِلسُّنَّةِ أُخْرَى لَمْ يَقَعْ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلسُّنَّةِ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ لِلسُّنَّةِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ لِلسُّنَّةِ أَوْ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا تَطْلِيقَةٌ لِأَنَّهَا هِيَ التَّطْلِيقَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَنَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَقَعُ الثَّلَاثُ مِنْ سَاعَةِ تَكَلَّمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَتَتَفَرَّقُ عَلَى الْأَطْهَارِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَتَبْطُلُ نِيَّتُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّهَا هِيَ التَّطْلِيقَاتُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَنَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ كَذَا هَذَا.
(وَلَنَا) أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْحَظْرُ وَالْحُرْمَةُ فِي غَيْرِهِ لِمَا تَبَيَّنَ فَكَانَ كُلُّ طَلَاقٍ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ سُنَّةً، فَكَانَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ فِي الْحَالِ إيقَاعًا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا لَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ بِمُلَازَمَةِ الْحَرَامِ إيَّاهُ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ نَوْعَانِ: سُنَّةُ إيقَاعٍ وَسُنَّةُ وُقُوعٍ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً عُرِفَ بِالسُّنَّةِ لِمَا تَبَيَّنَ فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ السُّنَّةِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُحْتَمِلَةً لِمَا نَوَى فَصَحَّتْ وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا وَكَذَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ بِقَوْلِهِ لِلْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَقَعُ لِلْحَالِ وَاحِدَةً وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَكَذَا فِي الْحَامِلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً لِلسُّنَّةِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ السُّنَّةِ.
(وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْعِدَّةِ أَوْ طَلَاقَ الْعَدْلِ أَوْ طَلَاقَ الدِّينِ أَوْ طَلَاقَ الْإِسْلَامِ أَوْ طَلَاقَ الْحَقِّ أَوْ طَلَاقَ الْقُرْآنِ أَوْ طَلَاقَ الْكِتَابِ أَمَّا طَلَاقُ الْعِدَّةِ فَلِأَنَّهُ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، وَطَلَاقُ الْعَدْلِ هُوَ الْمَائِلُ عَنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ لِأَنَّ الْعَدْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى مُطْلَقِ الْمَيْلِ كَاسْمِ الْجَوْرِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَيْلِ مِنْ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ وَإِنْ وُضِعَ فِي اللُّغَةِ دَلَالَةً عَلَى مُطْلَقِ الْمَيْلِ وَالطَّلَاقُ الْمَائِلُ مِنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ هُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ وَطَلَاقُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ وَالْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ وَالْكِتَابُ وَهُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الْحَقِّ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ طَلَاقُ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَجْمَلَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَعْدَلَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ أَلِفَ التَّفْضِيلِ وَأَضَافَ إلَى الطَّلَاقِ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ الْوَاقِعَ عَلَى الْحُسْنِ فَيَقْتَضِي وُقُوعَ طَلَاقٍ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ بِالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْعَدَالَةِ كَمَا إذَا قِيلَ: فُلَانٌ أَعْلَمُ النَّاس يُوجِبُ هَذَا مَزِيَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً يَقَعُ لِلْحَالِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً عَدْلَةٌ أَوْ عَدْلِيَّةً أَوْ عَادِلَةً أَوْ سُنِّيَّةً يَقَعُ لِلسُّنَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَقَعُ لِلْحَالِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ غَيْرَ حَائِضٍ جَامَعَهَا فِي طُهْرِهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً سُنِّيَّةً، وَصَفَ التَّطْلِيقَةَ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً، وَالطَّلَاقُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ فَهُوَ سُنِّيٌّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَبِاقْتِرَانِ الْفَسْخِ بِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي ذَاتِهِ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً، وَلَا يُشْتَرَطُ الْكَمَالُ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْكَمَالِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ الْحَاصِلَةُ بِالثَّلَاثِ كَذَا هَاهُنَا، وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ فِي قَوْلِهِ حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاخْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا اللِّجَامُ لِلْفَرَسِ، وَهَذَا الْإِكَافُ لِهَذِهِ الْبَغْلَةِ وَهَذَا الْقُفْلُ لِهَذَا الْبَابِ، وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ لِلتَّعْرِيفِ فَإِنْ كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَهُوَ جِنْسُ السُّنَّةِ اقْتَضَى صِفَةَ التَّمَحُّضِ لِلسُّنَّةِ وَهُوَ أَنْ لَا يَشُوبَهَا بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ فَالسُّنَّةُ الْمَعْهُودَةُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ مَا لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا إيقَاعُ طَلَاقٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ سُنِّيًّا مُطْلَقًا فَلَا يَقَعُ إلَّا عَلَى صِفَةِ السُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَقَعُ فِي غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ كَذَا هَذَا وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ السُّنِّيَّةِ وَبَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالْجَمِيلَةِ، وَمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ يُجْعَلُ صِفَةً لَهُ كَقَوْلِهِ سُنِّيَّةً وَعَدْلِيَّةً وَمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ يُجْعَلُ صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ حَسَنَةً وَجَمِيلَةً لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَذْكُورَةٌ فِي اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ وَالتَّطْلِيقَةُ مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ وَقَعَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مِنْ كُلِّ حَيْضَةٍ تَطْلِيقَةٌ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ أَطْهَارُ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ لِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلشُّهُورِ يَقَعُ لِلْحَالِ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى، لِأَنَّ الشُّهُورَ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ شُهُورُ الْعِدَّةِ.
وَكَذَا الْحَامِلُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَوْ نَوَى- بِشَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ- الْوُقُوعَ لِلْحَالِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَيَكُونُ عَلَى مَا عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ أَمَّا فِي لَفْظِ الْأَحْسَنِ وَالْأَجْمَلِ وَالْأَعْدَلِ فَلِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الصِّفَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ إذْ لَا تَفَاوُتَ لِلْأَشْيَاءِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قُدْرَتِهِ سَوَاءٌ وَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مُصَدَّقًا وَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ إيقَاعُهُ سُنَّةً فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عُرِفَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: قِسْمٌ مِنْهَا يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ إنْ نَوَى وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَا يَكُونُ لِلسُّنَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا مَا يُصَدَّقُ فِيهِ إذَا قَالَ نَوَيْتُ بِهِ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقَعُ فِي أَوْقَاتِهَا وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ بَلْ يَقَعُ لِلْحَالِ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْعِدَّةِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْعَدْلِ أَوْ طَلَاقَ الدِّينِ أَوْ طَلَاقَ الْإِسْلَامِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا عَدْلًا أَوْ طَلَاقَ عِدَّةٍ أَوْ طَلَاقَ سُنَّةٍ أَوْ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ أَجْمَلَ الطَّلَاقِ أَوْ طَلَاقَ الْحَقِّ أَوْ طَلَاقَ الْقُرْآنِ أَوْ طَلَاقَ الْكِتَابِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ فِي السُّنَّةِ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ مَعَ السُّنَّةِ أَوْ عِنْدَ السُّنَّةِ أَوْ عَلَى السُّنَّةِ.
(وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلِيلُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لِأَنَّ فِيهِ شَرْعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا فَكَانَ الطَّلَاقُ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ فَكَانَ كَلَامُهُ مُحْتَمِلَ الْأَمْرَيْنِ فَوُقِّفَ عَلَى نِيَّتِهِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ بِالْكِتَابِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْقُضَاةِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْقُضَاةِ أَوْ طَلَاقَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلِيلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ لَفْظُهُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقَعُ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا يَكْتُبْ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا فَعَلِمْت مَا فِيهِ ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ أَحْوَطُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: طَلَاقُ الْبِدْعَةِ:

وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ وَلِأَنَّ فِيهِ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي صَادَفَهَا الطَّلَاقُ فِيهِ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِهَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لِلْحَاجَةِ هُوَ الطَّلَاقُ فِي زَمَانِ كَمَالِ الرَّغْبَةِ، وَزَمَانُ الْحَيْضِ زَمَانُ النُّفْرَةِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فِيهِ دَلِيلَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِيهِ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ سَفَهًا.
إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُشْكِلُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَالصَّحِيحُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ فَتَبِينُ مِنْهُ بِطَلَاقٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَكَانَتْ الرَّجْعَةُ أَوْلَى، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الرَّجْعَةِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أُعْتِقَتْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ إذَا أَدْرَكَتْ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الْعِنِّينِ وَهِيَ حَائِضٌ وَالثَّانِي الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْحَمْلِ يَنْدَمُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا لَا لِحَاجَةٍ وَفَائِدَةٍ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً وَلِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا فَقَدْ قَلَّتْ رَغْبَتُهُ إلَيْهَا فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ فَهُوَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ أَوْ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْجَمْعِ بِأَنْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّفَارِيقِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكُلُّ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةً وَلَا بِدْعَةً بَلْ هُوَ مُبَاحٌ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ احْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الطَّلَاقِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} شَرَعَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ وَالْمُفْتَرِقِ وَالْمُجْتَمِعِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَشْرُوعٌ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْخَلِّ وَالصُّفْرِ وَنِكَاحَ الْأَجَانِبِ لَمَّا كَانَ مَشْرُوعًا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهَاهُنَا لَمَّا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ دَلَّ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَبِهَذَا عُرِفَتْ شَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا الْمُجْتَمِعُ.
(وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي أَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ وَهُوَ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ أَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إيجَابٍ كَانَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الْجَمْعُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ نَدْبٍ كَانَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الْجَمْعُ نَهْيَ نَدْبٍ.
وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُخَالِفِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْآخَرَ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أَيْ دَفْعَتَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْطَى آخَرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يُعْطِيَهُ دَفْعَتَيْنِ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِهِ يُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ قَدْ يُوجَدُ وَقَدْ يَخْرُجُ اللَّفْظُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَلَى إرَادَةِ الْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} أَيْ لَيُرْضِعْنَ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ طَلِّقُوهُنَّ مَرَّتَيْنِ إذَا أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ نَهْيٌ عَنْ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْجَمْعِ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جِنْسَ الطَّلَاقِ، وَجِنْسُ الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ وَالثَّلَاثُ إذَا وَقَعَ دَفْعَتَيْنِ كَانَ الْوَاقِعُ فِي دَفْعَةٍ طَلْقَتَيْنِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الطَّلْقَتَيْنِ فِي دَفْعَةٍ مَسْنُونَتَيْنِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ أَيْ دَفْعَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أَيْ وَهُوَ الرَّجْعَةُ، وَتَفْرِيقُ الطَّلَاقِ وَهُوَ إيقَاعُهُ دَفْعَتَيْنِ لَا يَتَعَقَّبُ الرَّجْعَةَ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ كُلِّ جِنْسِ الطَّلَاقِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، وَالْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ طَلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَوَضَحَ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ لِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَعْدَ النَّهْيِ فَعُلِمَ أَنَّ هاهنا غَيْرًا حَقِيقِيًّا مُلَازِمًا لِلطَّلَاقِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ الْمُشَرَّعِ لِمَكَانِ الْحَرَامِ الْمُلَازِمِ لَهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالطَّلَاقُ إبْطَالٌ لَهُ وَإِبْطَالُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَهَذَا مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لِعَدَمِ تَوَافُقِ الْأَخْلَاقِ وَتَبَايُنِ الطَّبَائِعِ أَوْ لِفَسَادٍ يَرْجِعُ إلَى نِكَاحِهَا بِأَنْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَفُوتُهُ بِنِكَاحِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ أَنَّ الْمُقَامَ مَعَهَا سَبَبُ فَسَادِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ لِيَسْتَوْفِيَ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَلَمْ يَنْظُرْ حَقَّ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ قَائِمٌ فَالشَّرْعُ وَالْعَقْلُ يَدْعُوَانِهِ إلَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً حَتَّى أَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ تَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الصَّلَاحِ إذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتُوبُ نَظَرَ فِي حَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا؟ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُرَاجِعْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُطَلِّقْهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي ثَانِيًا وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَخْرُجُ نِكَاحُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ غَالِبًا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ أَوْ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عَلَى تَقْدِيرِ خُرُوجِ نِكَاحِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَصَيْرُورَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي حَالَةِ الْغَضَبِ؛ وَلَيْسَتْ حَالَةُ الْغَضَبِ حَالَةَ التَّأَمُّلِ؛ لَمْ يَعْرِفْ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فَكَانَ الطَّلَاقُ إبْطَالًا لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ فَكَانَ مَفْسَدَةً.
وَالثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مَسْنُونٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَكَانَ الطَّلَاقُ قَطْعًا لِلسُّنَّةِ وَتَفْوِيتًا لِلْوَاجِبِ فَكَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لِلتَّخْلِيصِ وَالتَّأْدِيبُ يَحْصُلُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَإِذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَتَأَدَّبُ وَتَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَالصَّلَاحِ، وَالتَّخْلِيصُ يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَالثَّابِتُ بِالرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ صَارَ مَقْضِيًّا بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَبَقِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَيْ نَدَامَةً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ رَغْبَةً فِيهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالنِّكَاحِ فَيَقَعُ فِي السِّفَاحِ فَكَانَ فِي الْجَمْعِ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ ذَلِكَ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مِثْلِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِخِلَافِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ التَّدَارُكِ بِالرَّجْعَةِ وَبِخِلَافِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَقِّبُ النَّدَمَ ظَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ يُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي الْأَطْهَارِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ.
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَنَا تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِغَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلْعِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الطَّلَاقِ الْوَاحِدِ الْبَائِنِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَذَكَرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ لَا يُفَارِقُ الرَّجْعِيَّ إلَّا فِي صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ، وَصِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لَا تُنَافِي صِفَةَ السُّنَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَائِنَةً وَأَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَذَا الْخُلْعُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ بَائِنٌ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ (وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَائِنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالرَّجْعِيِّ فَكَانَ الْبَائِنُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً وَلِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ لِاحْتِمَالِ النَّدَمِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُرَاجَعَةُ وَرُبَّمَا لَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ فَيَتْبَعَهَا بِطَرِيقٍ حَرَامٍ وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْهُ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لِحَاجَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بَائِنًا فَكَانَ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لِأَنَّهُ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْخُلْعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بِصِفَةِ الْإِبَانَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا؟ وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ الْجُنَاحَ فِي الْخُلْعِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مُبَاحًا مُطْلَقًا، ثُمَّ الْبِدْعَةُ فِي الْوَقْتِ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا؛ فَيُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِمَكَانِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَأَمَّا كَوْنُهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي الْعَدَدِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَكَذَا يَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْكُلِّ.